قد ذكر الله -سبحانه تعالى- في غير ما موضع من القرآن الكريم شدة ارتباط الإنسان بوطنه وتعلقه بأرضه وعدم استغنائه عن محل انتمائه، وخوفه من الخروج من مكان نشأته، وذكر لنا كيف استثار فرعون مشاعر حب الوطن في قومه ليخوفهم من دعوة سيدنا موسى -عليه السلام- عندما قال لهم: ﴿إِنَّ هَذَا لَسٰحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ [الشعراء: 34-35]، ووجه الخطاب لسيدنا موسى: ﴿قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يٰمُوسَى﴾[طه:57]، قال صاحب اللباب في علوم الكتاب: «وتركيب هذه الشبهة عجيب، وذلك لأنه ألقى في مسامعهم ما يصيرون مبغضين له جدًا بقوله: ﴿أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا﴾ لأن هذا مما يشق على الإنسان في النهاية، ولذلك جعله الله تعالى مساويًا للقتل في قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيٰرِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ﴾ [النساء:66]»(1). وقد سئل أحد الحكماء فقيل له: «ما أشد من الموت؟ قال: الذي يتمنى فيه الموت، جعل الإخراج من الوطن من الفتن والمحن التي يتمنى عندها الموت. ومنه قول القائل:

لَقتلٌ بِحَدِّ السَّيفِ أَهْونُ مَوقِعا  عَلَى النفس مِن قَتْل بِحدّ فراقِ»2

حب الأنبياء لوطنهم

     لقد كان ارتباط الأنبياء بالأرض والوطن ارتباطًا وثيقًا، وكان لأمر إخراجهم من أوطانهم بالغ الأثر على نفوسهم، إذ استعمل أقوامهم شتى أنواع الابتزاز والأذية ليصدوهم عما جاءوا به من الهدى، ومن الوسائل التي استعملوها: اللجوء إلى النفي والإخراج من الأرض، وهذا ماعجل بهلاكهم، قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظّٰلِـمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِـمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ﴾ [إبراهيم:13-14]، وهذه الآية نزلت تثبيتًا لرسول الله –صلى الله عليه وسلم-، كما نزلت إنذارًا لأهل مكة الذين عمدوا إلى إخراج نبيهم من أرضه، وتهديدًا لهم بأن يُفعل بهم كما فعل بالذين أخرجوا أنبياءهم(3).

     إن من سنن الله تعالى في خلقه أنه لا يلبث قوم أخرجوا رسولهم من أرضه إلا وقد نزل بهم عذاب من ربهم، قال تعالى: ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَّا يَلْبَثُونَ خِلٰفَكَ إِلَّا قَلِيلًا  سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا﴾ [الإسراء:76-77]. قال الإمام الطبري -رحمه الله-: أي سنة الأمم والرسل كانت قبلك كذلك إذا كذبوا رسلهم وأخرجوهم، لم يناظروا أن الله أنزل عليهم عذابه(4).

     كم كره سيدنا شعيب -عليه السلام- أن يسمع من قومه تهديد إخراجه من وطنه، قال سبحانه وتعالى: ﴿قَالَ الْـمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يٰشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كٰرِهِينَ﴾ [الأعراف:88]، أي ولو كنا كارهين أن نخرج من وطنناتخرجوننا؟(5)، فخيّروه بين عقيدته وبين ما تصوروا أنه أغلى ما يساوَم عليه المرء، ألا وهو ترك الوطن، لكن هيهات أن يساوَم المؤمن في عقيدته، فمهما كانت رابطة الانتماء للوطن قوية إلا أن رابطة العقيدة أقوى وأوثق.

     وعلى نفس المنوال سار قوم سيدنا لوط -عليه السلام-، فبعد أن حاروا جوابا معه، وضاقوا ذرعا به وبدعوته إيّاهم للإيمان بالله وترك ما كانوا عليه من الفاحشة، هددوه بالإخراج من وطنه، لعلمهم بحبه لموطن نشأته، وصعوبة تركه لأرضه، قال تعالى: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا ءَالَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ * فَأَنْجَيْنٰهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنٰـهَا مِنَ الْغٰبِرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْـمُنْذَرِينَ﴾ [النمل:56-57-58] فَبِهمّهم إخراج نبيهم نزل بهم ما نزل بغيرهم من الأمم التي نصبت لرسلها العداء.

     وقد ذكر صاحب المستطرف من حب الأنبياء لوطنهم أن سيدنا يوسف - عليه الصلاة والسلام- أوصى بأن يحمل تابوته إلى مقابر آبائه، فمنع أهل مصر أولياءه من ذلك، فلما بعث موسى -عليه الصلاة والسلام- وأهلك الله تعالى فرعون لعنه الله، حمله موسى إلى مقابر آبائه، فقبره بالأرض المقدسة(6).

     وها هو سيدنا موسى يحنّ لوطنه بعد أن بقي في مدين عشر سنين، قال سبحانه: ﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ ءَانَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي ءَانَسْتُ نَارًا لَعَلِّي ءَاتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾ [القصص:29]، قال ابن العربي: قال علماؤنا: لما قضى موسى الأجل طلب الرجوع إلى أهله، وحنّ إلى وطنه، وفي الرجوع إلى الأوطان تقتحم الأغرار، وتركب الأخطار، وتعلل الخواطر(7).

حب الرسول – صلى الله عليه وسلم - لوطنه:

     لم يكن الرسول –صلى الله عليه وسلم- بدعًا من الرسل في حبه لوطنه، فقد اعترى الرسول –صلى الله عليه وسلم- ما يعتري كل وَفِيّ لتراب أرضه، ومحب لوطنه، فنجده تألم لفراقه، وحنّ شوقًا إليه، وتحرك قلبه بذكر دياره، ودعا على من كان سببا في إخراجه، وشعر بما يشعر به كل مفارق لوطنه، وفي هذا يورد الإمام الذهبي -رحمه الله- في سِيَره مجموعة أمور يحبها –صلى الله عليه وسلم- فذكر أنه كان يحب عائشة، ويحب أباها، ويحب أسامة، ويحب سبطيه، ويحب الحلواء والعسل، ويحب جبل أحد، ويحب وطنه، ويحب الأنصار، إلى أشياء لا تحصى مما لا يغني المؤمن عنها قط(8)، ولشدة ارتباطه بوطنه تفاجأ من إخراج قومه له أكثر من مفاجأته بتكذيبهم وأذيتهم له، فعندما أخبره ورقة بن نوفل بالذي سيلقاه من قومه بسبب دعوته، وقال: «لَتُكذّبنّه ولَتُؤذينّه ولَتُخرجنّه، فقال: أو مخرجِيّ هم؟»(9) وقد عَدّ السهيلي هذا دليلًا على حبه –صلى الله عليه وسلم- لوطنه حين قال: وذلك أنه قال لرسول الله –صلى الله عليه وسلم-: لتكذبنّه فلم يقل له النبي –صلى الله عليه وسلم- شيئا، ثم قال: ولتؤذينّه فلم يقل له شيئا، ثم قال: ولتخرجنّه فقال: «أومخرجِيّ هم؟» ففي هذا دليل على حب الوطن وشدة مفارقته على النفس(10).

     وبعد مرور السنين وفي طريق هجرته –صلى الله عليه وسلم-، وعند وصوله إلى الجحفة، عرف الطريق إلى مكة، فاشتاق إليها وذكر مولده ومولد آبائه، فأتاه جبريل -عليهما السلام-، فقال: أتشتاق إلى بلدك ومولدك؟ قال: نعم، قال: فإنّ الله - سبحانه وتعالى- يقول: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ إلى مكة ظاهرًا عليها(11)، قال ابن عباس -رضي الله عنه-: يعني إلى مكة، وقال القتبي: معاد الرجل بلده(12).

     وانظر إليه –صلى الله عليه وسلم- وهو يلتفت إلى مكة ويخاطبها بنبرة حسرة، وفي مشهد يدمي القلب، ويبكي العين، ويقول: «ما أطيبك من بلد وأحبك إليّ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك»(13).

     وقد سألت عائشة -رضي الله عنها- يومًا أُصيْلًا فقالت: «كيف تركت مكة؟ قال: اخضرت جنباتها، وابيضت بطحاؤها، وأغدق إذخرها، وانتشر سلمها، فقال له رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: حسبك يا أصيل لا تحزني»(14) ومن وجه آخر قال له النبي –صلى الله عليه وسلم-: «ويها يا أصيل تدع القلوب تقر»(15).

     ولأنه –صلى الله عليه وسلم- ذاق طعم فراق الوطن، وحنّ إلى ديار مكة، كان إذا وجد من غاب عن أهله وموطنه أمره بالرجوع إليها، فعن مالك قال: «أتينا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ونحن شببة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين يوما وليلة، وكان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- رحيما، رفيقا، فلما ظن أنّا قد اشتهينا أهلنا -أو قد اشتقنا- سألنا عمن تركنا بعدنا، فأخبرناه، قال: ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم، وعلّموهم ومروهم - وذكر أشياء أحفظها أو لا أحفظها- وصلوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، ولْيؤمكم أكبركم»(16).

     أما حبه للمدينة - وطن إقامته- فكان كبيرًا أيضا، ومن مظاهر هذا الحب ما يرويه أنس -رضي الله عنه- حين يقول: «أن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان إذا قدم من سفر فنظر إلى جدرات المدينة أوْضع راحلته، وإن كان على دابة حرّكها من حُبها»(17)، أي حثّها على الإسراع، قال ابن بطال: «وتعجيل سيره –صلى الله عليه وسلم- إذا نظر إليها من أجل أن قرب الدار يجدّد الشوق للأحبة والأهل، ويؤكد الحنين إلى الوطن، وفي رسول الله –صلى الله عليه وسلم- الأسوة الحسنة»(18)، وأكد ابن حجر العسقلاني -رحمه الله- أن «في الحديث دلالة على فضل المدينة وعلى مشروعية حب الوطن والحنين إليه»(19).

*  *  *

الهوامش:

(1)      اللباب في علوم الكتاب، لعمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي، تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود والشيخ علي محمد معوض، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان، 1419هـ، 1998م، الطبعة1،  13/282.

(2)      الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، تحقيق : عبد الرزاق المهدي، 1/263.

(3)      جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، قدم له الشيخ خليل الميس ضبط وتوثيق وتخريج صدقة حميد العطار، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 7/285.

(4)      جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لابن جرير الطبري، 9/235.

(5)      انظر الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري القرطبي، المحقق: هشام سمير البخاري، دارعالم الكتب، الرياض، المملكة العربية السعودية، طبعة : 1423هـ، 2003م، 7/250.

(6)      المستطرف في كل فن مستظرف، لشهاب الدين محمد بن أحمد أبي الفتح الأبشيهي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 1986، تحقيق :  د.مفيد محمد قميحة، 2/93.

(7)      أحكام القرآن لأبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي، خرج أحاديثه، محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت-لبنان، الطبعة الثالثة، 1424هـ، 2003م، القسم الثالث، ص:511.

(8)      سير أعلام النبلاء، لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن الذهبي، المحقق : مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة، 1405هـ، 1985م، 15/394.

(9)      طرح التثريب في شرح التقريب لزين الدين أبو الفضل عبد الرحيم بن الحسيني العراقي، تحقيق عبد القادر محمد علي، دار الكتب العلمية، طبعة: 2000م، بيروت، 4/185.

(10)    الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام، لأبي القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد السهيلي، المحقق: عمر عبد السلام السلامي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1421هـ/ 2000م، 2/273.

(11)    الكشف والبيان،لأبي إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري، دار إحياء التراث العربي، بيروت-لبنان، 1422هـ، 2002م، الطبعة: الأولى، تحقيق: الإمام أبي محمد بن عاشور، 7/266-267.

(12)    بحر العلوم، لأبي الليث نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي الفقيه الحنفي، دار الفكر، بيروت، تحقيق: د.محمود مطرجي، 2/622.

(13)    سنن الترمذي لمحمد بن عيسى الترمذي تعليق محمد ناصر الدين الألباني مكتبة المعارف للنشر والتوزيع الرياض ط: 1، ص: 880 كتاب المناقب باب في فضل مكة رقم الحديث: 3926، وانظر: سنن ابن ماجه كتاب المناسك، باب فضل مكة، حديث رقم: 3108. ومسند الإمام أحمد، مسند الكوفيين، حديث عبد الله بن عدي بن الحمراء الزهري، رقم الحديث: 18621، ج14، ص:250.

(14)    المقاصد الحسنة، ص: 183.

(15)    المقاصد الحسنة، ص: 183.

(16)    البخاري، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، الطبعة 1، 1422هـ، 1/128-129، كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة.. ح: 631/ مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أحق بالإمامة، ح: 674. مج: 2 ج: 5، ص: 141، 142.

(17)    البخاري، 3/23، أبواب فضائل المدينة، باب، ح: 1886.

(18)    شرح صحيح البخاري، لأبي الحسن علي بن خلف بن عبد الملك بن بطال البكري القرطبي، 


 


أحدث أقدم

ميزة جدول التنقل