في إطار المحاضرات والدروس العلمية التي ينظمها مركز مناهل للدراسات والأبحاث وإحياء التراث بمناسبة شهر رمضان المبارك، استضاف المركز فضيلة الأستاذ الدكتور: رشيد كهوس: أستاذ بجامعة عبد المالك السعدي بتطوان، وذلك يوم الاثنين 9 رمضان ابتداء من الساعة الرابعة عصرا، وكان عنوان المحاضرة "السنن الإلهية في القرآن الكريم: آثارها الاجتماعية وأبعادها الاقتصادية
استهل المحاضر حديثه بتقديم عرف فيه السنن الإلهية: جاء فيه بأن السنن الإلهية هي
المنظومة السننية الحاكمة لصيرورة العمران البشري الناظمة لحركة الحياة والأحياء
والاستخلاف الإنساني والوجود الكوني وسير المجتمعات عامة، ولسلوك الإنسان وحركته
في المجتمع، وصيرورته في عالم الشهادة الدنيوي وفاعليته في التاريخ خاصة، والتي تهدف
إلى إصلاح الإنسان نفسا ومجتمعا وأمة وحضارة في المعاش وإسعاده في المعاد، وتحقيق
شهوده العمراني على الأمة.
كما أشار إلى أن العناية
بالسنن الإلهية مجال مفتوح، يحتاج إلى التفكير والتأصيل والتأسيس والوعي
والاستيعاب والتنزيل، وأضاف إلى أن كون القرآن المجيد يمثل خلاصة كلية كاملة شاملة
لمنظومة سننية دينية وحضارية وكونية، هي من أهم ما يجب أن تهتم به الدراسات
الشرعية والاجتماعية المعاصرة، لأن هذا المستوى من الوعي في نظر الباحث سيمكن الأمة
عامة من الاستفادة القصوى من هداياته العظيمة وبصائره اللطيفة.
ثم انتقل المحاضر إلى الكشف عن أهم محاور هذه
المحاضرة والتي صاغها في سؤالين رئيسيين:
الأول: ما منزلة السنن في القرآن الكريم؟
الثاني: ما هي آثارها الاجتماعية وأبعادها
المقاصدية؟
وقد تناول هذه المحاضرة من خلال ثلاث منطلقات:
المنطلق الأول: حول فتح القرآن في مجال
السنن
بين فيه المحاضر إجمال القرآن الكريم الحديث عن
الأمم السابقة، وعن السنن الإلهية، وأمره بالنظر والتفكر والسير في الأرض لفهم هذا
الإجمال بتفصيل، ليزيدنا ارتقاء وكمالا.
ولعل من
أفضل موارد السنن: القصص القرآني يضيف المحاضر، حيث ينبهنا الوحي القرآني ويلفت
أنظارنا من خلالها إلى ما آلت إليه تلك الأمم من تغير أحوالها إيجابا أو سلبا.
كما لمح إلى أنواع من السنن الإلهية التي تطرق
لها القرآن الكريم مثل: الإيمان والكفر، والخلق والأمر، والنصر والهزيمة، واليسر
والعسر والأسباب والمسببات... وأشار إلى أن دعوة القرآن الكريم إلى
السير والنظر ليست دعوة إلى غيبوبة وانحباس في الماضي، وإنما هي دعوة إلى استصحاب
التجارب والمعارف والكشوف لتحقيق الاعتبار.
وخلص في النهاية إلى اعتبار السنن أحد المفاهيم
المركزية، التي أسس عليها القرآن الكريم نظرته للوجود والكون والحياة والانسان والاستخلاف.
المنطلق الثاني: حول الآثار الاجتماعية للسنن.
تطرق فيه المحاضر إلى الآثار الاجتماعية للسنن،
فكان منها ما يلي:
الأثر الأول: الوقاية من السقوط الاجتماعي. تناول فيه فوائد السنن الإلهية، وما لها من آثار اجتماعية، فهي تقدم للناس معرفة نظرية وعملية حتى لا يقع فيما وقع
فيه المجتمعات قبلهم، أو تكسبهم صلابة موقف من يدرك السنن، وتكشف عن أسباب الخلل،
وتثير في الإنسان فطرة الخير والفضيلة والصلاح، وتدعوه إلى الاستقامة ومراجعة
مواقفه ووقفاته.
الأثر الثاني: السنن الإلهية توجه
المجتمعات إلى لأمن والاستقرار. أوضح فيه أن نصوص الوحي حين توجه البشرية
إلى فهم السنن الإلهية، والتكيف معها والعمل بمقتضاها وتسخيرها، إنما تمثل العناية
الإلهية بالإنسان ورحمة الله عز وجل التي تأخذ بيد الإنسان إلى بر
الأمان ليواجه الظروف والعوامل البيئية الاجتماعية فيتفاعل معها تفاعلا مفيدا.
الأثر الثالث: السنن
الإلهية منطلقا للنهوض الحضاري. أكد فيه أن السنن الإلهية وتسخيرها والسير على
هداها هو المدخل الرئيس والمنطلق الصحيح لنهضة المجتمعات، وبهذه السنن الإلهية التي
تحكم المسيرة البشرية نكون قادرين على التعامل الصحيح وتحديد الأبعاد والمداخل
الصحيحة.
الأثر الرابع: التقصير في السنن منذر بانهيار المجتمعات. بين فيه أن هلاك
المجتمعات الماضية لم يكن أبدا بسبب القصور العمراني، وإنما بسبب التقصير في جانب
العبودية لله تعالى والانحراف عن منهجه السنني: وهو ما أكده القرآن الكريم،
واستشهد بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم
كما تداعى الأكلة إلى قصعتها"، كما أكد أيضا أن عملية النهوض
بالواقع المعيش تتطلب التزام المنهاج السنني، واكتشاف السنن الإلهية، وفهم آلية
عملها ومن ثم امتلاك القدرة على تسخيرها ومدافعة السنة بالسنة.
الأثر الخامس: السنن الإلهية بوصلة تحدد اتجاه
المجتمعات. أشار فيه إلى ما تمتاز به الأمة المسلمة دون غيرها من سائر الأمم
والحضارات الأخرى، وهو امتلاكها للنص الإلهي الصحيح، وتنزيله على واقع الناس في
مرحلة السيرة النبوية الخالدة، ويعتبر منهاج العمل ودليل التعامل مع الحياة، أي
البوصلة التي تحدد اتجاهات من جانب، كما تعتبر المعيار وأداة التقويم، ومركز
الرؤية لمدى صوابية وسلامة الفعل والاجتهاد البشري من جانب آخر.
الأثر السادس: استشراف مستقبل المجتمعات. أكد فيه أن من يستقصي تاريخ البشرية يطلع
على حاضرها فلن يجد سنة من سنن الله تعالى تحولت على من استحقوها، ولا تبدلت
بغيرها فهي قد وقعت في الغابرين والحاضرين على من استحقها، فلابد أن تقع في
المستقبل وفق قدرها الذي قدره الله تعالى. وعليه فإن السنن الإلهية تقوم
على إصلاح شؤون الحياة للأفراد والمجتمعات مما يحقق لهم خير الدنيا والآخرة.
المنطلق الثالث: حول الأبعاد المقاصدية للسنن.
البعد الأول: توحيد الله تعالى وتعظيمه وعبادته. تحدث فيه عن مركزية
التوحيد وأهميته في قيام الخلافة البشرية في الأرض، والغاية من وجود الإنسان، وبيان أن
السنن
الإلهية تقوم على عقيدة توحيد الله تعالى بوصفه الدعامة الرئيسة، والقطب الذي تنجذب
إليه كل الموجودات. وكثير من نصوص الوحي قرآنا وسنة تربط السنن بعبادة الله تعالى
وتوحيده.
البعد الثاني: تأكيد صدق رسالة سيدنا محمد صلى
الله عليه وسلم ونبوته. أشار فيه إلى أن نزول القرآن على النبي صلى الله عليه
وسلم بسنن السابقين وأخبارهم أكبر دليل على صدق نبوته ورسالته، فكون
النبي صلى الله عليه وسلم أميا ولم يتعلم من أحد، فإذا علم بها وتدبر العاقل من قومه
ذلك، علم أنه وحي من الله سبحانه
وتعالى فآمن به وبصدقه، وكان ذلك من المعجزات الدالة على صدق نبوته ورسالته.
البعد الثالث: تصحيح الاعتقاد وتقويم سلوك الأفراد
والجماعات. أكد فيه أن العلم بالسنن الإلهية يجنب صاحبه الاعتقاد الخاطئ بأن
الكون والحياة تحكمهما المصادفة والفوضى والعبثية، بل توقفه على ما أودعه الله
فيهما من سنن تجعل، سيره على بصيرة وعمله على هدى، فيحقق الوقاية من السقوط في الهلاك
والخيبة والخسران.
البعد الرابع: إصلاح الإنسان. ألمع فيه إلى ما يقصد إليه
القرآن الكريم من ذكر السنن الالهية وهو مقصد إصلاح الإنسان الذي أنعم الله عليه بنعمة الخلق
والإيجاد، وبنعمة التوجيه والإمداد، إصلاحا يجمع له بين خير الدنيا والآخرة وسعادة
الروح والجسم وطيب المعاش والمعاد ويجعله أهلا لخلافة في الأرض.
البعد الخامس: الاطمئنان والاتزان. أوضح فيه خصائص السنن
الإلهية وهي: الثبات والاطراد والانتظام، وهذه الخصائص تحيط النفس
بالاستقرار الذي يكون توطئة لمعرفة ما لكل امرئ وما عليه، ومن ثم فإن هذا الاطمئنان والاتزان الذي ينشأ عن كشف السنن الالهية
يشكل عاملا مهما في حركة الفرد نحو الاصلاح، وفي ممارسة وظيفته في عمارة الأرض دون
قلق.
البعد السادس: الوقاية من الأزمات أو إدارتها عند
وقوعها. لمح فيه المحاضر إلى ضرورة التوجه صوب القراءة السننية القاصدة
والإيجابية للأزمة، والعمل على امتلاك القدرة لتوظيفها في استرداد فعالية الأمة
وتجديد شبابها. كما أشار إلى أهمية معرفة السنن الإلهية، واستيعابها للنهوض
بالبناء الاجتماعي والوقاية الحضارية من الأزمات.
البعد السابع: الإفادة من الماضي وتقويم الحاضر والعبور
إلى المستقبل. بين فيه أن ما تمتاز به السنن الإلهية من الاطراد والانتظام
والشمول والثبات، كفيل بأن يجد المسلمون فيها الخلاص من العوائق التي تعترض نهضتهم
الاجتماعية والحضارية، والحلول لكثير من المشكلات التي تواجههم.
البعد الثامن: فهم الظواهر الاجتماعية والكونية.
أكد فيه أن من خلال السنن الإلهية في القرآن الكريم والسنة النبوية
نفهم التاريخ على حقيقته. لارتباط هذه السنن بالأمر والنهي والطاعة والمعصية
والإيمان والفكر والتوحيد والشرك، ومثل بذلك، بالإنسان إذا أتى بالأمر واجتنب
النهي وقف عند حدود الله تعالى أصاب خير السنة الربانية، وإذا أهمل الأمر وخالفه
وارتكب النهي عنه ووقف في حدود الله أصاب شر السنة الربانية.
البعد التاسع: النهوض بأمانة الاستخلاف. بين فيه ما أودعه الله سبحانه
وتعالى للإنسان من قدرة على معرفة السنن الالهية، وعلى تسخير قوى الكون وفق هذه السنن للنهوض بالخلافة، وأرجع
سبب تخلف هذه الأمة وفقدانها السيطرة إلى يوم أهملت الأخذ بالسنن والانتفاع بها لتحقيق
الرقي.
البعد العاشر: ربط الإنسان بمصيره في الآخرة. أوضح فيه أن المقصد
الأساس من ذكر السنن الإلهية هو عدم الاعراض عن آيات الله في الآفاق و الأنفس،
بل عليه أن يقبل عليه إقبال الدارس، إما لتنتهي إلى قضية إيمانية تسري حياته
وتعطيه حياة لا نهاية لها وهي حياة الآخرة، أو تسعده وتسعد غيره ليكتشف منها ما
يفيده به البشرية في مسيرتها في الحياة.
وفي الختام: أكد المحاضر على أهمية السنن الإلهية،
واعتبر السير في الحياة بمعزل عنها ضرب في متاهة، ومشي في غياهب الظلم، بلا دليل
يقود، ولا هاد يرشد، ولا صاحب يدل، لأنه فقْد لاستصحاب جزء من المعرفة التي يترتب
عليها الاعداد لكل نازلة أو الإفادة من كل منحة.
تقرير ذ. علي حدوتي.