د. الميلود كعواس
في إطار سلسلة المحاضرات والدروس العلمية المتخصصة خلال شهر رمضان الأبرك، والتي كانت تحت عنوان: القرآن الكريم وأثره في تدبير الأزمات والمشكلات الإنسانية، نظم مركز مناهل للدراسات والأبحاث وإحياء التراث يومه السبت 28 رمضان 1443هـ الموافق لـ: 30 أبريل 2021م، محاضرة علمية في موضوع: قواعد الأفكار وتنقيح الأنظار من خلال القرآن الكريم، والتي قام بتأطيرها الأستاذ الدكتور الميلود كعواس، وقام بتسييرها الأستاذ أيوب أحمين.

وفي بداية اللقاء بسط المسير ورقة تعريفية موجزة بالأستاذ المحاضر، ليحيل بعدها الكلمة إليه من أجل تقديم موضوعه، وقد نوه الدكتور كعواس بداية بالعمل الذي يقوم به المركز، وبموضوع ومضامين المحاضرات التي قدمها مجموعة من الأساتذة المحاضرين خلال شهر رمضان المبارك.

استهل المحاضر حديثه ببيان أهمية النظر والتفكر وخطورته، وأن بناء الأفكار وتحرير الأنظار يحتاج إلى ضبط وتقعيد، لكي لا يزيغ إلى ما لا تحمد عقباه، وذلك لكون معالجة السلوك يحتاج إلى معالجة الأفكار، وأفضل من يعالج ذلك هو كتاب الله تعالى، وقد تطرق الدكتور المحاضر إلى مفهوم التفكير عند أهل اللغة، ومرادفاته، ومن ذلك ما ذكره الإمام الغزالي في الإحياء، إذ جعل التدبر والتأمل والتفكر عبارات مترادفة على معنى واحد، أما معناه في الاصطلاح، فأورد ما ذكره الإمام الغزالي في سياق الحديث عن فائدته، فقال: "وفائدة التفكر تكثير العلم واستجلاب معرفة ليست حاصلة"، وذكر الغزالي  في موضع آخر أن "الفكر هو مفتاح الأنوار ومبدأ الاستبصار وهو شبكة العلوم ومصيدة المعارف والفهوم"، كما أورد المحاضر أيضا تعاريف أخرى للجرجاني والمناوي. ليخلص إلى أن التفكر وما يرادفها يمكن أن يطلق على إعمال العقل في سبيل تحصيل معرفة، أو تقويمها، أو تصحيحها.

انتقل المحاضر إلى بيان أهمية التفكير في الحضارة الإسلامية، وقد دلل على ذلك بأمور منها:

ـ أن التفكير هو أول فعل تهيأ به النبي r لاستقبال الوحي، إذ كان يتحنث ويتعبد بالتفكر كما ذكر ابن حجر العسقلاني، وكما ذكر الإمام الصالحي في كتابه "سبل الهدى والرشاد".

ـ التفكير فريضة إسلامية، كما عبر بذلك عباس محمود العقاد وعنون به كتابه، وقد ذهب جمع من العلماء إلى أن التفكير والتأمل والنظر هو أول ما يجب على المكلف في شريعتنا، وهو مذهب الأشاعرة، كما نص على ذلك ابن عاشر رحمه الله في منظومته.

ـ الحضور النوعي للتفكر والتفكير وغيرها من المشتقات في كتاب الله تعالى، وقد قال الغزالي: "وكثر الحث في كتاب الله تعالى على التدبر والاعتبار والنظر والافتكار" وذكر بعض الباحثين أن الآيات التي مدارها حول إعمال العقل والتفكر والتدبر وما يلحق بها بلغت 696 آية، أي بنسبة 10.3%، أما الآيات التي تتحدث عن التفكر بصيغة مباشرة فقد بلغت 18 آية كما ذكر محمد فؤاد عبد الباقي، والمشترك بين هذه الآيات هو الفعل المضارع الذي يفيد الاستمرار والتجدد، وقد ذكرت في سياق المدح والحث، بينما ذكرت مرة واحدة في سياق الذم بصيغة الماضي، وذلك في قوله تعالى: (إنه فكر وقدر)

ـ التفكير أمر فطري في الإنسان، فالنظر مطلب فطري فطر عليه الإنسان.

ـ التفكير هو أساس الخير والشر، فضبطه مفض إلى استجلاب المصالح، وفساده مؤد إلى حصول المفاسد، وهو ما قرره ابن القيم في الفوائد رحمه الله تعالى.

ـ التفكير مقصد من مقاصد القرآن الكريم، قال تعالى (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم تتفكرون) (النحل: 44) وذكر الطاهر بن عاشور أن الآية تضمنت مقصدان مقصد التبيين ومقصد التفكر.

بعد بيان هذه أهمية التفكير في حضارتنا الإسلامية، انتقل الدكتور الميلود كعواس إلى بيان ضوابط النظر والتفكر والتدبر من خلال كتاب الله تعالى، مؤكدا أن التوجه لإصلاح السلوك والتصرفات قبل إصلاح الأفكار، خطأ في التوجه والمنهج، لأن المنهج السليم يقتضي معالجة الأفعال من خلال الاشتغال على تصحيح الأفكار، وهو ما ذكره ابن عاشور حين قال: "إن إصلاح التفكير مقدم على إصلاح العمل"، وعليه فإن السعي للحد من العنف والعدوان والتخريب وغيرها من مظاهر الشر التي نجدها في مجتمعنا، لا يمكن أن تُستأصل بالحبس أو التعذيب أو التغريم، ما لم يتم تصحيح أفكار أصحابها، ولا يمكن أن تتحقق وظيفة التفكير المنشودة إلا إذا تم ضبط عملية التفكير أيضا، وإلا صارت أداة للفساد والإفساد، وأفضل ما يضبط الفكر ويعصمه من الزلل هو النصوص المنزلة من كتاب وسنة، ومن أهم وأبرز ضوابط وقواعد التفكير، ذكر المحاضر ست قواعد:

القاعدة الأولى: وهي أن الفكر السليم هو الذي يستند إلى الحجة والبرهان، وهي قاعدة قررتها آيات تزيد عن العشرة، منها قوله تعالى: (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) (البقرة: 111) وذكر أنه من البراهين التي يمكن أن نبني عليه الأفكار، البرهان الحسي، والبرهان السمعي البرهان التاريخي والبرهان النظري العقلي. كما ذكر ذلك يوسف القرضاوي، فالإسلام إذن ضد عقلية "ضع عقلك جانبا واتبعني" كما هو معروف في المسيحية، وضد عقلية تقليد الآباء والأجداد، وضد اتباع الهوى الذي يضل عن سبيل الله كذلك.

القاعدة الثانية: وهي توظيف آليات الإدراك لتطوير الأفكار، وقد حث كتاب الله تعالى على استثمار الآليات التي ندرك بها الأشياء، فهي المنافذ التي ننفذ من خلالها إلى الفكر، وهذه المنافذ هي الحواس، قال تعالى: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون) (النحل: 78). فبها يصل الإنسان إلى الذكرى، وفي المقابل ذم الله تعالى من عطل هذه الحواس، قال سبحانه: (لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها)

القاعدة الثالثة: وهي وثوقية المصادر المعتمدة في إنتاج الأفكار والأنظار، فذكر المحاضر أن المعرفة التي نمتلكها قسمان: معرفة فطرية، ومعرفة مكتسبة، وأجلّ المصادر وثوقية؛ كتاب الله تعالى وسنة رسوله r، وقد شنع الله على أقوام تركوا ما أنزل الله من أجل كلام الأجداد، رغم أنه لا مجال للمقارنة بينهما في ميزان الوثوقية والقيمة العلمية، قال سبحانه: (قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى) (الأعراف: 203) فالإنسان إذا بنى أفكارا على مصادر غير موثوقة فلا شك أن النتيجة ستكون مغلوطة. لذا دعانا الله تعالى إلى سؤال أهل الذكر بقوله: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) (النحل: 43)

القاعدة الرابعة: وهي أنه لا يجوز الاعتماد على الظنيات إن وجدت القطعيات، إلا على سبيل الاستئناس، وقد أنكر القرآن الكريم على المشركين اتباع الظن، خاصة في القضايا المصيرية؛ كقضايا العقائد، وقضايا الوجود، والقضايا المتعلقة بالغيبيات، قال تعالى: (إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا) (النجم:28) وغيرها من الآيات الدالة على هذه القاعدة. ومن الأمثلة التي ساقها الدكتور الميلود كعواس، حكم بعض الناس بعدم قبول عدالة بعض الصحابة، تأسيسا على أقوال ظنية، رغم أن القرآن الكريم يتحدث عن هذا الأمر بنصوص قطعية، ويصف الصحابة في كثير من الآيات بأنهم عدول. وتتفرع عن هذه القاعدة قاعدة أخرى أشار إليها يوسف القرضاوي، وهي رفض الظن في موضع اليقين، إذ لا يجوز إعمال الظنيات فيما هو من باب اليقينيات؛ كتأسيس العقائد وأصول الشرائع وأمهات الأخلاق، هذا وأشار الدكتور إلى أن هذا الكلام غير محمول على أن الأخذ بالظنيات مرفوض، إذ إن الظنيات معمول بها وتتأسس عليها الأفكار وتبنى عليها الأنظار، لكن عندما تغيب الأدلة القطعية، كما أشار كذلك إلى أن المقصود بالظن ليس ما يفهمه العامة، بل هو النظر الغالب، ومدار العلوم في وقنتنا المعاصر هو الظن.

القاعدة الخامسة: وهي التسليم في الغيبيات والتفكر في آثارها، فالشرع ينهى عن التفكر في الغيبيات، ويدعونا إلى التفكر في آثارها، وهذا ليس فيه منع للعقل من الاشتغال، بل هو توفير لطاقته وجهده، لأنه لن يصل إلى نتيجة بتفكره، وقد قال r: "تفكروا في خلق الله، ولا تتفكروا في الله فإنكم لن تقدروا"، لذا كان من شأن الغيبيات التسليم بها.

القاعدة السادسة: وهي ترك التفكير فيما لا طائل من ورائه، وقد خصص لها الإمام الشاطبي مقدمته الخامسة من الموافقات، فالشارع قد أعرض عما لا يفيد عملا، ففي القرآن الكريم نجد قوله تعالى: (ويسألونك عن الأهلة) ليكون الرد: (قل هي مواقيت للناس والحج) (البقرة: 189) فوقع الجواب بما يقع به العمل وأعرض عما قصده السائل من السؤال، وإذا الشرع ينهانا عن التفكير فيما لا طائل منه، فإنه من باب أولى ترك إعمال الفكر فيما هو ضرر محض، كإعمال الفكر في اختراع ما يضر بالبشرية، وهو تفكير منهي عنه شرعا.

وفي الأخير، وبعدما قدم المحاضر هذه القواعد المهمة، التي ترمي إلى ضبط عملية التفكير والتفكر، أشار إلى إمكانية استخراج الناظر في كتاب الله تعالى قواعد أخرى، منها ما يكون على سبيل الوسائل، ومنها ما يكون على سبيل المقاصد.

وختم الدكتور الميلود كعواس كلمته بتنويهه بجهود مركز مناهل في سبيل إحياء ليالي رمضان بهذه الأنشطة العلمية الهادفة، ليتناول رئيس مركز مناهل الكلمة، متقدما بالشكر الجزيل للأستاذ المحاضر، ولكل الأساتذة الذين أسهموا وشاركوا بمحاضراتهم طيلة شهر رمضان المبارك، رغم التزاماتهم وانشغالاتهم الكثيرة، وذكَّر بأن باب مركز مناهل للدراسات والأبحاث وإحياء التراث مفتوح في وجه كل الأساتذة والباحثين.

بقلم الأستاذ عبد الحكيم خلفي




أحدث أقدم

ميزة جدول التنقل