إلى جانب باقي مكونات السردية الدينية المغربية، التي
تشكل الإطار المرجعي للتدين المغربي في أبعاده الفقهية والعقدية والسلوكية، يعتبر
المكون العقدي المتمثل في العقيدة الأشعرية من أهم الأسس المرجعية التي قامت عليها
الهوية الدينية المغربية منذ قرون من الزمن، نظرا لما تتسم به هذه العقيدة ضمن نسق
المنظومة الدينية في المغرب من وسطية واعتدال، وما تجسده من قيم التسامح والتعايش
بين مختلف الأطياف المجتمعية، وهي قيم تكاد تنعدم في واقعنا المعاصر، في ظل
التدافع المذهبي الذي تشهده الساحة الفكرية، بسبب ظهور عدد من التيارات الفكرية
ذات المنحى المتطرف والعنيف، والتي استطاعت أن توظف كل الأدوات والآليات الحديثة
لتضليل وعي المتلقي وتعبئته إيديولوجيا لخدمة مشاريعها التدميرية. إضافة لما تمثله
العولمة في بعدها الثقافي والقيمي من اجتياح لهذه الخصوصية الدينية الأصيلة،
لاسيما في عصر الثورة الرقمية التي أذابت الحواجز بين الشعوب، وجعلت العالم يبدو
كقرية صغيرة.
ولما كان البعد العقدي هو الإطار الذي تتشكل ضمنه تصورات
الإنسان ووعيه بذاته، وهو المعيار الذي يحدد
طبيعة علاقة الإنسان بغيره سلبا أو إيجابا، بل إن البعد العقدي هو الخلفية التي
تحرك كل الأحداث في العالم، وأن القضية المركزية خلف كل ما يجري في الساحة اليوم من
حروب ونزاعات دولية وإقليمية إنما هي قضية عقدية في بنيتها العميقة؛ لذلك كان
الاهتمام بهذا الموضوع من أي زاوية من زوايا النظر، يعتبر من أوجب الواجبات الدينية
والمعرفية التي يجب أن تتحرك لها أقلام الباحثين، من أجل بناء وعي حضاري مؤمن
بالتعدد والاختلاف، ومتشبع بقيم التعايش والتسامح في ظل مجتمع تطبعه الوحدة والتآلف
والانسجام.
في هذا السياق تأتي هذه المساهمة لتسلط الضوء على بعض
الجوانب التاريخية للفكر الأشعري في المغرب بدءا من مرحلة التعرف والاكتشاف
وانتهاء إلى مرحلة الترسيم في عهد الدولة الموحدية، كما ستعمل على إبراز بعض المرتكزات
والأسس المعرفية والمنهجية التي قام عليها الفكر الأشعري، والتي يمكن اعتبارها المحدد
الموضوعي الذي استند إليه اختيار المغاربة لهذا الفكر واعتماده كرافد من روافد
التدين المغربي.
فكيف ظهرت الأشعرية في المغرب؟ وما هي الآليات
والميكانيزمات التي ساعدت على هذا الظهور؟
وما هي أبرز التحديات والعقبات التي واجهت هذا الاتجاه الفكري في البيئة
المغربية؟ ثم ما هي أهم المرتكزات المعرفية والمنهجية التي ساهمت في تغلغل المذهب
الأشعري في البنى الفكرية والثقافية للمجتمع المغربي؟
لقد عرف المغرب خلال تاريخه
الطويل مجموعة من التيارات الفكرية والعقدية المتصارعة، التي كانت تأتي أحيانا
متزامنة وأحيانا أخرى متلاحقة، فكان كل منها يحاول أن يستأثر بالحياة الدينية
بالمغرب. حيث عرف المغرب خلال فترة ما قبل الأشعرية، ظهور المذهب الخارجي بفرعيه،
الصفري الذي أنشأ له دولة خاصة هي دولة بني مدرار، والإباضي الذي أنشأ له دولة
أخرى هي الدولة الرستمية. كما عرف المغرب الوجود الشيعي ممثلا في فرقة البجلية
التي استوطنت سوس ولم ينته وجودها إلا على يد عبد الله بن ياسين. وعرف أيضا من فرق
المعتزلة، فرقة الواصلية المنتسبة إلى واصل بن عطاء، مؤسس مذهب الاعتزال، وكان قد
بعث إلى المغرب داعيته عبد الله بن الحارث فاستجاب له عدد من المغاربة وأصبحوا
معتزلة، وكان إسحاق بن محمد بن عبد الحميد الأوْرَبي أحدهم، وهو الذي دعا قبيلته
إلى مبايعة إدريس الأول. [1]
ويبقى التيار الأبرز الذي
هيمن على المشهد الديني خلال حقبة ما قبل الأشعرية، هو الاتجاه السني الأثري، الذي
كان سائدا في عهد المرابطين، وعنه يقول الناصري: "وأما حال المغاربة في
الأصول والاعتقادات، فبعد أن طهرها الله تعالى من نزعة الخارجية أولا، والرافضة
ثانيا، أقاموا على مذهب أهل السنة والجماعة مقلدين للجمهور من السلف في الإيمان
بالمتشابه وعدم التعرض له بالتأويل، مع التنزيه عن الظاهر". [2]
هذا وتجدر الإشارة إلى أن المغرب
كان عرف أيضا ظهور بعض الديانات المستحدثة مثل ديانة برغواطة التي استحدثها صالح
بن طريف بعد أن ادعى النبوة، وهي عبارة عن مزيج من التعاليم المستمدة من ديانات
مختلفة وعلى رأسها الإسلام. إضافة إلى ديانة أخرى وهي ديانة حاميم، التي ظهرت في
منطقة الشمال، ولم تكن بعيدة في بنيتها العامة عن ديانة برغواطة.
فهذه هي الخريطة الدينية للمغرب
قبل دخول الأشعرية، وهو ما استدعى بالضرورة، البحث عن بديل يوحد البلاد عقائديا،
فكان اختيار المغاربة للعقيدة الأشعرية سعيا منهم للتخلص من حالة التمزق والتشرذم التي
عرفتها المنطقة.
وتجدر الإشارة إلى أن المغرب
كان قد عرف دخول الفكر الأشعري في وقت مبكر، إلا أن الاعتماد الرسمي للتصور العقدي
الأشعري، لم يكن موجودا قبل المهدي ابن تومرت إلا وجودا محدودا في آحاد الأفراد. [3]
ورغم اختلاف الباحثين في
تحديد أول من أدخل عقيدة الأشاعرة إلى المغرب فإنهم يكادون يتفقون على الزمن الذي
دخلت فيه، وهو القرن الرابع الهجري، ما يعني أن هذا الفكر كان موجودا في عهد
الدولة المرابطية، لكنه لم يحظ بالانتشار في صفوف عامة الناس، نظرا لعدة عوامل،
أبرزها الاختيار العقدي للدولة المرابطية القائم على الاعتقاد بظواهر النصوص
والصفات الواردة فيها من غير تأويل ولا صرف لها عن مدلولها اللغوي.
ويمكن القول بأن الإرهاصات
الأولى للفكر الأشعري في الغرب الإسلامي، ظهرت أول ما ظهرت بالمدرسة السنية القيروانية؛
هذه المدرسة التي استفادت من جو الصراع الكلامي الذي كان سائدا هناك بين الفرق
الإسلامية المتنوعة من شيعة ومعتزلة ومرجئة، فتلقفت كل الأساليب الجدلية المشرقية
المناسبة لآرائها وتزودت بها في صراعها مع الخصوم، فكان المنهج الأشعري من أهم ما
اقتبسته وتسلحت به في مواجهتهم. [4]
ولعل من أهم العوامل التي
ساعدت على دخول الأشعرية إلى الغرب الإسلامي عموما وإلى المغرب الأقصى على وجه
الخصوص، ذلك التواصل العلمي الذي كان قائما بين علماء الأشعرية في المشرق ونظرائهم
في منطقة الغرب الإسلامي، من خلال الرحلات والمراسلات العلمية، التي طالما شكلت
جسرا مهما لعبور مضامين الثقافة الإسلامية إلى منطقة الغرب الإسلامي.
ومن العلماء البارزين الذين
كان لهم إسهام كبير في نقل تصورات الأشعرية إلى منطقة الغرب الإسلامي، أبوا بكر
الباقلاني (403 هـ)، الذي وصل إشعاعه إلى المغرب، سواء من خلال تلاميذه الذين
تأثروا بمنهجه في دراسة ومدارسة الفكر الأشعري بالمغرب كأبي عمران الفاسي، وأبي
القاسم عبد الجليل الربعي المعروف بالديباجي، أو حتى من خلال مؤلفاته المتعددة مثل
كتاب "الإنصاف" وكتاب "التمهيد".
وقد كان الإمام الباقلاني إلى
جانب أشعريته في الأصول مالكيا في الفروع، فكان هذا أحد أهم الأسباب التي جعلت
طلبة العلم من المغرب يقبلون عليه، حيث كانوا يأخذون عنه المذهب المالكي والطريقة
الأشعرية في آن واحد. [5]
ومنهم أيضا، إمام الحرمين
أبوا المعالي الجويني (ت 478هـ) الذي تميزت فترته باعتماد أسلوبه في عرض الأشعرية
والدفاع عنها [6]. وكان من أشهر تلاميذه من
المغرب محمد بن سعيد، ومحمد بن إبراهيم المعروف بابن شق الليل الطليطلي، وعبد الحق
بن محمد التميمي القرشي. كما كان لمؤلفات الإمام الجويني شهرة كبيرة في أوساط
المغاربة، فاهتموا بها شرحا وتدريسا، وبخاصة كتاب "الإرشاد" وكتاب
"البرهان". [7]
ورغم الجهود التي بذلت في إطار ترسيخ الفكر الأشعري في البيئة المغربية خلال
مرحلة ما قبل الترسيم، إلا أن هذه الجهود ظلت محدودة، بسبب افتقار الساحة الكلامية
المغربية إلى العوامل التي من شأنها أن تؤدي إلى ترسيخ هذا الفكر ونشره بين الناس.
ولعل من أهم الأسباب التي أدت إلى انحصار دائرة هذا الفكر في تلك الحدود الضيقة،
السيطرة العبيدية على المنطقة، والضغط الذي مارسه المد الشيعي على الاتجاهات
السنية، فضلا عن حماية المرابطين للفكر السلفي، واحتضانهم له، والتحام الفقهاء
المالكية معهم في الوقوف في وجه كل مذهب عقدي غير المذهب العقدي السلفي[8]، مما جعل هذا الاتجاه العقدي
يظل محصورا في فئات الدارسين، وفي دوائر النخب العلمية، الشيء الذي نتج عنه ما
يمكن أن نسميه بـ "الأشعرية العالمة" أو "الأشعرية الخاصة" في
مقابل "الأشعرية العمومية" أو "الأشعرية الشعبية" بتعبير أحد
الباحثين.
ويمكننا أن نلاحظ جانبا من الحرب المعلنة ضد الوجود الأشعري من طرف التيار
السلفي الأثري في عهد المرابطين، من خلال الأسئلة التي وجهها أمير المسلمين علي بن
يوسف بن تاشفين للإمام ابن رشد الجد،
يستفسره عن أئمة الأشعرية قائلا: ما يقول الفقيه القاضي، في الحسن الأشعري، وأبي
إسحاق الإسفراييني، وأبي بكر الباقلاني، وابن فورك، وأبي المعالي...أهم أئمة إرشاد
وهداية أم قادة حيرة وعماية؟ وما يقول في قوم يسبونهم وينتقصونهم، ويسبون كل من
ينتمي إلى هذا المذهب الأشعري، ويكفرونه ويتبرؤون منهم، وينحرفون بالولاية عنهم،
ويعتقدون أنهم على ضلالة، وخائضين في جهالة؟ [9]
فهذا
التساؤل يصور لنا جانبا من المشهد الديني في عهد المرابطين، ويبرز في الوقت نفسه
حدة الصراع المعلن ضد المذهب الأشعري، الذي لم يجد طريقا مفروشا بالورود، في ظل الممانعة
القوية من طرف النخبة العالمة المقربة من الدوائر الرسمية في دولة المرابطين، والتي
كان لها موقف عدائي ليس من الأشعرية وحدها، بل من كل المذاهب والاتجاهات التي كانت
تخالف منهج أهل السنة والجماعة، ومن كل المعارف والعلوم العقلية مثل الفلسفة
والمنطق. وبالتالي فقد أمعنت هذه الفئة من العلماء في تهجين الأشاعرة وتأليب الرأي
العام عليهم، حتى انتهى بها المطاف إلى تكفير كل من يخوض في شيء من علم الكلام، وتقبيح
هذا العلم في حضرة أمير المسلمين.
وقد وصف لنا صاحب المعجِب في تلخيص أخبار المغرب
هذا المشهد بقوله:" ودان أهل ذلك الزمان بتكفير كل من ظهر منه الخوض في شيء
من علوم الكلام، وقرر الفقهاء عند أمير المسلمين تقبيح علم الكلام...حتى استحكم في
نفسه بغض علم الكلام وأهله، فكان يكتب عنه في كل وقت إلى البلاد بالتشديد في نبذ
الخوض في شيء منه، وتوعد من وجد عنده شيء من كتبه". [10]
لقد كان المذهب الأشعري بحاجة
لكي يصبح اختيارا عقديا رسميا في الأوساط المغربية، ولدى جمهور المغاربة إلى إرادة
سياسية تفرض ممارسته والترويج له على المستوى الرسمي، وهذا ما سيضطلع به المهدي بن
تومرت (ت 524 هـ) وأتباعه من الموحدين.
فبعد عودة المهدي بن تومرت من
رحلته المشرقية، كان من أهم الأسس التي قام عليها مشروعه الإصلاحي هو العمل على
ترسيخ قواعد الفكر الأشعري. ولضمان تنزيل أمثل لرؤيته الإصلاحية في بعدها الفكري والعقدي
لم يكتف ابن تومرت باستعمال سلطته السياسية وما يمتلكه من وسائل مادية متنوعة
لتحقيق هذا الهدف، بل استعمل إلى جانب ذلك مقدرته العلمية والتأليفية، فأنتج عدة
مؤلفات لدعم مشروعه العقدي.
ولئن كانت مؤلفات المهدي
عموما تعتبر العامل الأساس في انتشار الأشعرية بالمغرب، فإن واحدا من تلك المؤلفات
هو الذي كان له الدور الأكبر في إشاعة الأشعرية بين أهل المغرب، وكان له الأثر
البالغ في تحويل التصور العقدي المغربي من تصور سلفي إلى تصور يقوم على التأويل،
ونعني بهذا المؤلف "عقيدة المرشدة" ــــ وهي رسالة وجيزة لا تتجاوز
الصفحتين، وقد سميت بذلك لافتتاحها بعبارة "اعلم أرشدنا الله وإياك..."ــــ
فقد شاع ذكرها بين الناس عامتهم وعلمائهم، وجرت بها الألسنة حفظا وشرحا، وصارت على
مر الأيام الخلاصة للتصور العقدي الذي تجري به الأذهان ويلقن للناس.[11]
ومما ساعد ابن تومرت على نشر
عقيدته الأشعرية ما سبقت الإشارة إليه من " اطلاع كثير من أهل المغرب، على
هذا المذهب، مما أنشأ في النفوس استعدادا لتقبلها، خاصة وأنها في حقيقتها ليست إلا
تطويرا لمذهب السلف في الاعتقاد، أضيف إليه العنصر العقلي في الاحتجاج والتأويل،
فلما كانت الأذهان عامرة بالأصل، تقبلت هذا التطوير بما سبق لها من العهد به طيلة
ما يقارب القرنين. [12]
كما أن استعمال اللسان
البربري كآلية للتواصل والتخاطب والتأليف كان من أهم العوامل التي ساعدت ابن تومرت
على نشر مقولات الفكر الأشعري في أوساط العامة. ولم يكن استعمال اللسان البربري من
طرف ابن تومرت بحسب الدكتور ابراهيم حركات تعبيرا عن نزعة قومية عرقية، بقدر ما
كان تجاوزا لمشكل التواصل اللغوي، وتيسيرا للبربر الذين كانوا غير ملمين باللغة
العربية لاستيعاب برنامجه الإصلاحي. [13]
وعلى نهج ابن تومرت سار
خليفته عبد المومن، حيث عمل هذا الأخير على ترسيخ العقيدة الأشعرية وضمان
استمرارها، من خلال إلزام العامة بالتقيد بمضامينها، وبما تركه ابن تومرت من إرث إيماني
وتربوي. ولم يكتف عبد المومن بإلزام العامة فقط، بل اهتم أيضا بالناشئة حيث قام
يستجلب الصبيان من الآفاق مخصصا لهم أماكن نظامية للتربية والتعليم، آمرا بتلقينهم
مبادئ المهدي وكتبه. [14]
وبصرف النظر عن الأسلوب الذي
انتهجه ابن تومرت في ترسيخ مضامين ومقررات العقيدة الأشعرية، فإنه يعود له الفضل
في توحيد البلاد على مذهب عقدي واحد، وانتشال المنطقة من التمزق المذهبي التي كانت
تعيشه، كما أن ابن تومرت يعتبر أول من أعطى الطابع الرسمي للعقيدة الأشعرية، بحيث
لم يعرف المغرب منذ ذلك الوقت مذهبا عقديا رسميا غير العقيدة الأشعرية.
وبالجملة يمكن القول بأن
انتشار الأشعرية بالمغرب في عهد الدولة الموحدية كان نتيجة لما بذله المهدي
وخلفاؤه من بعده ضمن خطتهم التربوية الهادفة إلى الإقناع بالرؤى التي رسمها
المهدي، وجعلها أساسا يجري عليه الناس تصوراتهم العقدية، ويعوضون به ما كان سائدا
من تصورات قد يخالطها أحيانا شيء من التشبيه والتجسيم، وقد كان هذا العمل منهم
ركنا أساسيا من أركان الدعوة الموحدية الهادفة إلى التغيير الشامل في الفكر
والسياسة والاجتماع. [15]
بعد استعراضنا لبعض الجوانب
التاريخية والسياسية التي ساهمت في انتشار العقيدة الأشعرية في المغرب، فإنه ينبغي
التأكيد على أن هناك مجموعة من الاعتبارات الموضوعية، التي شكلت الأرضية الصلبة التي
قام عليها الاختيار الشعبي لهذا المذهب العقدي، ومن ثم استمراره كرافد من روافد
الهوية الدينية المغربية إلى يومنا هذا.
لقد
اختار المغاربة هذا المذهب العقدي، لما لمسوه فيه من حفاظ على جوهر العقيدة، وحرص
على درء التشبيه والتعطيل، ولما لمسوه فيه من وسطية تتجاوز القراءة الحرفية
للنصوص، كما تتجاوز التأويل البعيد الذي يصادر دلالة النص من غير داع ملجئ إليه.
فقد وقف الفكر الأشعري موقف العدل والاعتدال من كل القضايا التي بلغ التباين فيها
حد التناقض، فشكل بذلك منظومة فكرية متكاملة، أسعفت جماهير الأمة الإسلامية بقدرة
فائقة على الدفاع -الجامع بين النقل والعقل -عن جميع قضايا العقيدة، وتمكن المذهب
الأشعري من وقف كثير من التيارات التي كانت تقدم نفسها للناس على أنها المتفردة
بمخاطبة الفكر دون سواها. [16]
كما أن هذا الاختيار روعي فيه ارتباط المذهب الأشعري بباقي مكونات النسق
الديني المغربي، حيث شكلت هذه المنظومة الدينية بمجموعها وحدة متآلفة تلتف حول عدد
من السمات المشتركة، من وسطية واعتدال وواقعية في الطرح، فضلا عما توفره من مساحة
مهمة لاستيعاب مختلف التصورات والرؤى ضمن منهج توفيقي يجعل من الوحدة غايته
الكبرى، بدل التفرقة وإثارة النعرات، وكلها مواصفات تنسجم مع الذهنية المغربية المعروفة
بميلها نحو التوسط ونبذ التعصب والتطرف بكافة أشكاله.
لقد اختار المغاربة المذهب المالكي كمنهج في الاستنباط والاستدلال الفقهي
ونمط في الممارسة الدينية لاعتبارات متعددة، منها ما يتميز به هذا المذهب من وسطية
واعتدال، حيث نجده يقوم على منهج الوسط فيأخذ بالنصوص الشرعية، لكنه يسمح في نفس
الوقت بأن يغوص العقل في أعماقها ويستنبط أحكامها الخفية، من خلال قواعد منهجية
دقيقة.
كما أن المذهب المالكي يتيح مساحة مهمة لاستيعاب مختلف الآراء والأقوال
المخالفة واستثمارها في معالجة بعض القضايا والنوازل الطارئة، ويتجسد هذا المنحى
الأصولي في قاعدة تعتبر من أهم القواعد المنهجية التي قام عليها المذهب المالكي،
والتي شكلت مع مرور الزمن جزءا من تكوين الإنسان المغربي وثقافته النفسية
والاجتماعية، يتعلق الأمر بقاعدة مراعاة الخلاف، وهي قاعدة تقوم على أساس العمل
بدليل المخالف في حالات معينة، وبضوابط محددة على المستوى الأصولي. ولقد كان لهذا
الأصل أثر كبير في تربية الإنسان المغربي على نفسية قبول المخالف والتآلف معه،
ولهذا نجد المغرب من البلدان القلائل التي تميزت بتماسكها الاجتماعي، على كل
المستويات السياسية والثقافية وغيرها. [17]
أما في ميدان السلوك والتربية الروحية فقد كان اختيار المغاربة من بين كل
المذاهب والطرق الصوفية التي كانت منتشرة في العالم الإسلامي، طريقة الجنيد
البغدادي، لما تتميز به هذه الطريقة من قيم ومبادئ تنسجم تماما مع الذهنية
المغربية الميالة إلى البساطة وعدم الإغراب. حيث انصب اهتمام هذه المدرسة على الجانب
العملي السلوكي، من خلال تبني أفكار لا تخرج عن مضمون الشريعة.
ففي الوقت الذي تجاوزت فيه الكثير
من المذاهب الصوفية حدود المعقول واتجهت إلى إنتاج خطاب موغل في التجريد والمثالية،
حتى قال بعضهم بنظرية الحلول، وذهب آخرون إلى القول بوحدة الوجود، نجد أن منهج
الجنيد اتجه إلى اعتماد خطاب واقعي يتمثل في الدعوة إلى تزكية النفس وإصلاح
اختلالاتها من خلال خطوات عملية واضحة وميسورة لجميع الناس، بعيدا عن التنظيرات
الفلسفية المغالية التي عرفت بها بعض الاتجاهات الصوفية الأخرى.
وهكذا شكلت هذه الاختيارات منظومة دينية متناغمة ومتكاملة أسهمت في بناء
مجتمع مغربي منسجم، على خلاف ما كان عليه الحال بالنسبة للمشرق الذي عرف الكثير من
الاضطرابات في ظل غياب منظومة دينية منسجمة يمكن أن تشكل الإطار المرجعي لحركة
الفكر والثقافة.
هذا ويعد ارتباط المذهب الأشعري بالأصل الشرعي وبعقيدة السلف، واندراجه ضمن
ما يسمى بعقيدة أهل السنة والجماعة، من أهم العوامل والمرتكزات التي جعلت المغاربة
يختارون هذا المذهب، يقول تاج الدين السبكي: " اعلم أن أبا الحسن الأشعري لم
يبدع رأيا ولم ينشئ مذهبا وإنما هو مقرر لمذاهب السلف مناضل عما كان عليه صحابة
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالانتساب إليه إنما هو باعتبار أنه عقد على طريقة
السلف نطاقا وتمسك به وأقام الحجج والبراهين عليه، فسار المقتدي به في ذلك السالك
سبيله في الدلائل يسمى أشعريا". [18]
كما أن من أهم الأسباب التي جعلت المغاربة يختارون هذا المذهب قيامه على عدم
تكفير أحد من أهل القبلة بذنب. وقد تناول أبوا الحسن الأشعري هذا الأصل في كثير من
كتبه وتحدث عنه خصوصا في رسالته التي سماها "رسالة إلى أهل الثغر"، والتي
فصل فيها القول عن أصول أهل السنة والجماعة، فذكر من بين هذه الأصول أن الكبيرة لا
تخرج من الإيمان. والفكرة الإيجابية التي ينطوي عليها هذا الأصل هي عدم تكفير أي
مسلم بذنبه العملي ومن ثم لا يجوز إقصاؤه من جماعة المسلمين. ومن مضامينه وآثاره
الاجتماعية، أنه لا يجوز رفع السلاح في وجه مسلم ولا قتاله. [19]
ومما يؤكد ثبات هذا المبدأ ورسوخه في الفكر الأشعري ما ذكره الذهبي من أن
أبا الحسن الأشعري حينما حضرته الوفاة قال لأحد جلسائه وهو زاهر بن أحمد السرخسي:
" إشهد علي أني لا أكفر أحدا من أهل القبلة، لأن الكل يشير إلى معبود واحد،
وإنما هذا كله اختلاف العبارات". [20]
لقد ساهمت الأشعرية من خلال هذا المبدأ في إرساء قواعد السلم الاجتماعي ونشر
روح التسامح بين المسلمين، على النقيض مما اتسمت به مذاهب أخرى كالمذهب الخارجي
الذي طالما خرج على الناس واستحل دماءهم وأعمل فيهم السلاح، وعلى نحو ما فعل
الشيعة القرامطة القادمون من البحرين، حينما قتلوا الناس وهم يطوفون بالبيت الحرام
سنة 317 هـ. [21]
ختاما أقول إننا اليوم بحاجة إلى إحياء مضامين هذه العقيدة في نفوس الناس
وإعادة تشكيل الوعي الجمعي وفق هذه الأسس والتصورات العقدية الأصيلة، القائمة على
الوسطية والاعتدال، بأسلوب بيداغوجي جديد يساعد على عرض مقرراتها ومضامينها
الفكرية والمعرفية، وبأدوات جديدة تستجيب لتحديات المرحلة، لمواجهة الأطروحات المغرضة
التي ما فتئت تستقطب العديد من الشباب وتجتذبهم إلى محيطها، وتعمل على تفكيك
الوحدة الفكرية والاجتماعية للأمة المغربية التي ظلت منسجمة ومتآزرة عبر تاريخها
الطويل.
------------------------------------------
الهوامش
[1] مصطفى بن حمزة،
المكون الديني ضمن رأس المال اللامادي بالمغرب، ص 4
[2] الناصري، الاستقصا
لأخبار المغرب الأقصى، ج1 ص 140
[3] عبد المجيد النجار، المهدي ابن تومرت حياته
وآراؤه وثورته الفكرية والاجتماعية وأثره بالمغرب، ص 434
[4]
جمال
علال البختي، عثمان السلالجي ومذهبيته الأشعرية، ص 10
[5] إبراهيم التهامي، جهود علماء المغرب في الدفاع عن
عقيدة أهل السنة، ص: 253
[6]
جمال
علال البختي، مقدمات المراشد إلى علم العقائد لابن خمير السبتي، ص 15
[7]
إبراهيم
التهامي، جهود علماء المغرب في الدفاع عن عقيدة أهل السنة، ص 260
[8]
جمال
علال البختي، عثمان السلالجي ومذهبيته الأشعرية، ص
11
[9] مسائل أبي الوليد ابن
رشد (الجد) تحقيق محمد الحبيب التجكاني، ج1 ص 716
[10] عبد الواحد المراكشي،
المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص: 172-173
[11] عبد المجيد
النجار، المهدي ابن تومرت حياته وآراؤه وثورته الفكرية والاجتماعية وأثره بالمغرب،
ص 447
[12]
نفسه،
ص 441
[13]
إبراهيم
حركات، المجتمع والسلطة في العصر الوسيط، ص 45
[14]
جمال
علال البختي، مقدمات المراشد إلى علم العقائد لابن خمير السبتي، ص 21
[15] عبد المجيد
النجار المهدي ابن تومرت حياته وآراؤه وثورته الفكرية والاجتماعية وأثره بالمغرب،
ص 442
[16]
دليل
الإمام والخطيب والواعظ من منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ص 21
[17]
نفسه،
ص24-25
[18] تاج الدين السبكي،
طبقات الشافعية الكبرى، ج 3، ص 365
[19] مصطفى بن حمزة، المكون الديني ضمن رأس المال اللامادي بالمغرب ص
6
[20]
الإمام
الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج 15 ص 88
[21] مصطفى بن حمزة،
المكون الديني ضمن رأس المال اللامادي بالمغرب ص 5