تعيش مجتمعاتنا العربية والإسلامية مشاكل كثيرة
وجرائم ضخمة، يندى لها الجبين، وقد تتبدد معها كل الآمال والأحلام التي تراودنا في
مستقبل زاهر سليم (فشو الرشوة، الربا، الغش، الخمور، القمار، الدعارة، غياب
العدالة الاجتماعية، البطالة، الشرك بكل
صوره وتجلياته، السحر، الشعوذة، انتشار الأمية، سيادة التفاهة...) مما يجعل الإنسان العاقل يفكر دوما كيف يبدأ
مشروع الإصلاح؟ وقد اتسع الخرق على الراتق ؟
الخطة إيجازا واختصارا في الجواب على السؤال: ابدأ مما بدأ الله به
الإصلاح على يد محمد صلى الله عليه وسلم، وإليك البيان والإجمال لخطوتها ومراحلها :
إن الأعراض المرضية العقدية والسلوكية
السالفة الذكر كانت كلها وجميعها موجودة في المجتمع القرشي الجاهلي بل كانت فيه
جريمة تتفطر لها السماء وتخر لها الجبال، وهي قتل الآباء لأبنائهم خشية الفقر أو
مع وجود المجاعة... ومع ذلك لم يبدأ الله بمعالجتها واجتثاثها وإنما بدأ بما لا يخطر
على بال المصلح الشروع في إصلاحه باعتباره ظاهريا أقل ضررا من المعاول الأخرى ألا
وهي الأمية .
نعم بدأ
الله الإصلاح بمحو الأمية لأنها سبب النزيف الداخلي الصامت والمستتر الذي يعاني
منه المجتمع معاناة تتجلى في حلل مختلفة، فكان
أول واجب موجه إلى رسول الله وإلى كل فرد من أمته هو (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي
خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي
عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)[1]
وبعد هذا الأمر الإلهي الأول الذي تشربه قلب
محمد صلى الله عليه على الريق استنفر طاقته وتجند لتنفيذ هذا المشروع الأساسي
والسهر على إنجازه
فأصدر
أمره بوجوب التعلم قائلا: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) [2]
وأحيانا يخبر أتباعه بأن العلم إرث الأنبياء
وطلبه طريق سيار مؤد إلى الجنة فيقول: ( من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به
طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإن العالم
ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على
العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء لم يورثوا دينارا،
ولا درهما إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)[3]
وطورا
يمتدح المتعلمين المتفوقين في شعبة من شعب المعرفة فيقول : (أفرضُهم زيدُ بنُ
ثابتٍ ، وأقرؤهم أُبَيُّ ، وأعلمُهم بالحلالِ والحرامِ معاذُ بنُ جبلٍ) [4]
ومرة
يدعو مع بعضهم كابن عباس ليرزقه الفقه والفهم الصحيح ( اللهم فقه في الدين وعلمه
التأويل) [5]
وأحيانا يدعو الناس إلى تقديم أهل المعرفة
والعلم لقيادة شؤونهم بحسب المجال : (يَؤُمُّ القَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ
اللهِ، فإنْ كَانُوا في القِرَاءَةِ سَوَاءً، فأعْلَمُهُمْ بالسُّنَّةِ)، [6]
بل كان يقدم عليه السلام أهل المعرفة والعلم
والقرآن حتى في عملية الدفن فلقد كان يسأل الصحابة عن الشهداء : (أيهم أكثرأخذا
قرآنا) فإذا أشير إلى أحدهم جعله الأول في اللحد.
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد ثم يقول: (أيهما أكثر أخذا للقرآن، فإن
أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد)[7]
وكان منهجه مع الذين يأتونه معترفين بنبوته
ورسالته أن يرسله إلى من يعلمه القرآن إن كان فردا أو يرسل معهم من يعلمهم في
قبيلتهم كما هي قصة مصعب بن عمير الذي بعث به إلى سكان يثرب عقب بيعقة العقبة
الأولى
بل
وصل انشغاله واهتمامه بموضوع نشر العلم وتعميم المعرفة حد الهوس ولم يفارقه حتى في
لحظات الحرب، فقلد اشترط على الأسرى في
غزوة بدر أن يعلموا الصحابة مقابل إطلاق سراحهم وهي مبادرة لم يفكر فيها أحد على
مر من قبل، وكأنه يشير بذلك إلى أن الأمية قيود وأغلال تكبل صاحبها وتمنعه من
الانطلاق والتحرر والتقدم وأنها لا تقل بشاعة وذلا وعبودية من الأسر المادي حيث
الأرجل والأيدي في قيود فلا يقوى الإنسان على فعل شيء.
وبعد
قرون وقرون وبعد تجارب مريرة كبدت دولا خسارة ماليا وخسارة بشرية ستكتشف هذه
الأخيرة أن مفتاح التقدم ووقود النهضة هو القراءة وتعميم العلم ونشر المعرفة
فجعلتها أولى اهتماماتها وخصصت لها أعلى نسبة من ميزانتها فارتقت في معراج التقدم
والتطور.
فيا أيها
الآباء والمربون والعلماء والحكام ابدؤوا الإصلاح مما بدأ الله به الإصلاح: ابدؤوا
من توفير ظروف التعلم والتعليم المادية والمعنوية
وستختفي معظم معضلات المجتمع تلقائيا كما اختفت من المجتمع القرشي الجاهلي
قديما كما اختفت من الدول الرائدة في التعليم حديثا لأن الأمية أم المصائب.
[1] سورة
العلق الآية 1و2و3و4و5
[2] أخرجه
ابن ماجه (224) والبزار (6746) مختصراً، وابن عبدالبر في ((جامع بيان العلم
وفضله)) (17) واللفظ له من موقع الدرر السنية
[3] اخرج
الترمذي وأبو داود عن أبي الدرداء مرفوعا،
[4] اخرجه أبو يعلى (5763)، والبيهقي (12549)
واللفظ له ولألباني في : صحيح
الجامع من موقع الدرر السنية ت الموسوعة الديثية
[5] أخرجه أحمد (2879 )، وابن حبان (7055 ) من
حديث ابن عباس .موقع الدرر السنية
[6] صحيح
مسلم رقم 673 موقع
الدرر السنية
[7] رواه البخاري. موقع إسلام ويب تاريخ النشر:الأربعاء 7 جمادى الآخر 1426 هـ - 13-7-2005 م الفتوى: 64606