يتصدر محور "القيم" مكانة هامة في مناهجنا التعليمة وبرامجها التربوية، وهو الخطاب المتداول في حقول معرفية متعددة (الدين، الفلسفة، الأدب، العلوم الرياضية والاقتصادية والسياسية...) ومع هذا التداول الكثيف لهذا المصطلح، فإنه قد يلفه من الغموض الشيء الكثير، خاصة حين يختلف هذا الاستعمال من حقل لآخر، أو حين تكون المنطلقات والرؤى والتصورات مختلفة في تحديد مصادر هذه القيم ومعايير ضبطها، وتطبيق مقتضياتها.
وهذا يضعنا في مطلع
هذا المقال أمام ضرورة مقاربة هذا المفهوم (القيم) لتحديد معني قيمة التعاون في
الفضاء المدرسي الذي ننشده، والذي يضفي على الحياة المدرسية روح العمل الجماعي
المشترك، ويمنحها من الدينامية ما يجعلها تحقق أهدافها التربوية المرجوة.
1. القيم في معناها اللغوي:
فالقيم في اشتقاقها
ومعانيها اللغوية تأتي بمعنى "ثمن الشيء بالتقويم"[1] وتدل أيضاً على
اعتدال الشيء واستوائه، ومنه قوله تعالى: { إنَّ الذِينَ قَالُوا رَبُّنا
اللهُ ثُم اسْتَقَامُوا } (فصلت:31) والقوام: العدل؛ كما قال تعالى:
{ وَكَانَ بَينَ ذَلكَ قَوَاماً} (الفرقان:67) وقوله تعالى: {إِنَّ
هَٰذَا ٱلْقُرْءَانَ يَهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ }.
(الإسراء:09) [2] أي إلى أعدل
الطرق وأصوبها.[3]
فالقيم وما اشتق منها إذن
بمفهومها اللغوي -كما سبق- تكاد تتفق على معنى جامع وهو رقي الإنسان وكماله،
فالثبات، والعدل والاستقامة، والاعتدال...كلها صفات مستحسنة في الإنسان وغيره،
بينما يدل مقابلها على اعوجاج ونقصان.[4]
2. القيم بمعناها الاصطلاحي
العام:
نقصد
بالمعنى الاصطلاحي العام للقيم، المفهوم المتداول في تراثنا الإسلامي المجرد عن
التخصصات الدقيقة (العلوم الرياضية، والاقتصادية، واللغوية...) والأنظار
الفلسفية التي حارت في الإبانة عن هذا المفهوم المتحرك،[5] وبالعدول عن
هذا كله، إلى المفهوم القريب لغرضنا المقصود يمكن القول بأن القيم هي:
" مجموعة من الأخلاق التي تصنع نسيج الشخصية الإسلامية وتجعلها
متكاملة قادرة على التفاعل الحي مع المجتمع وعلى التوافق مع أعضائه "[6] فهذه
الأخلاق المتصدرة في التعريف منشأها الأساس - في تقديرنا- هو الدين الإسلامي،
المتمثل في تلك الفطرة التي يولد عليها الإنسان أولاً قبل أن تتدخل أيدي
المربين والمنشئين، والعوامل الأخرى التي تتأثر بها أخلاق الفرد ( الإنسان نفسه
وإرادته في الاستقامة، المجتمع وأعرافه وتقاليده، الإعلام بوسائله المختلفة،
القوانين والأنظمة...) فذات الفرد ذائبة في البيئة التي يعيش فيها، وفي القبيلة
التي يأوي إليها، وفي ذلك يقول الشاعر:
وما أنا إلا من غزية[7] إن غوت
غويت
وإن ترشد غزية أرشد
وقد
جاء الدين الإسلامي الحنيف بمجموعة من القيم لتكوين بيئة سليمة من الأمراض
والرذائل، التي تخدش مروءة الإنسان وأخلاقه.
وذلك
ما عبر عنه جعفر بن أبي طالب أمام النجاشي حين سأله عن هذا الدين الجديد الذي
فارقوا به قومهم؟ إذ كان جواب جعفر: " أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية، نعبد
الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل منا
القوي الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه
وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من
دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن
الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال
اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئا، وأمرنا
بالصلاة والزكاة والصيام..."[8]
وقد سَجلت كتب التاريخ والسير
نماذج مُشرقة من قيم التعاون التي جسدها المجتمع العربي قبل بعثة
النبي صلى الله عليه وسلم(كحلف الْمُطَيّبِينَ،[9] وحلف الفضول،[10] وإعادة بناء
الكعبة ) فالعمل في إطار الجماعة من أجل نصرة المظلومين، ورد المظالم إلى أهلها،
وتشييد الأماكن المقدسة للعبادات... كلها أخلاق جامعة لمعاني القيم الرفيعة، وبهذا
تميزت شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم قبل بعثته، حتى اصطفاه الله عز
وجل رسولاً ونبياً لهذه الأمة.
فقد روي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في عدها
لبعض هذه الأخلاق التي تمثلها النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول الوحي عليه
وهي - كما تعدها خديجة رضي الله عنها- تقول: " إِنَّكَ لَتَصِلُ
الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ،
وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ..."[11]
3. أثر قيمة التعاون في الفضاء المدرسي المنشود
إذا كانت القيم -كما سبق-
تعني تلك الأخلاق التي تصنع نسيج الشخصية الإسلامية وتجعلها متكاملة قادرة على
التفاعل الحي مع المجتمع وعلى التوافق مع أعضائه...فإن هذا التفاعل وهذا التوافق
له من الأهمية البالغة في محيطنا التربوي.
فالفضاء المدرسي
ليس من اختصاصه التلقين فقط، فالقيم لا تلقن من أجل أن يحفظها المتعلم على ظهر قلب
ليستحضرها يوم الامتحان وانتهى الأمر، فإذا خرج إلى محيطه انغمس في السلوكيات
والرذائل المناقضة لما لقن له؛ بل الغرض أن تدرس هذه القيم ليستشعر المتعلم قيمتها
وأهميتها سواء في المحيط التربوي أو خارجه.
وهذا المبدأ ليس من قبيل
الخواطر التي تخطر على البال أول مرة، ولا هو ضرب من الترف الفكري الغير قابل
للتطبيق، بل هو مبدأ أصيل وجدناه في تراثنا الحضاري منذ القدم، فقد وجدت ثقافة
العمل التطوعي والاجتماعي في البلاد العربية حتى قبل مجيء الإسلام، ووجدت هذه
الأعمال التطوعية منقوشة على جذران المعابد، فقد كان الشخص يتطوع من تلقاء نفسه
لمدة ساعة في كل يوم لأداء أي عمل اجتماعي له عائد ملموس على أرض الوطن
أو يكون له عائد خدمي لأي مواطن في حاجة إلى أداء هذه الخدمة. ([12])
ومن علامات استمرار هذه
المبادئ والقيم في محيطنا التربوي أن ينخرط المتعلم في مجموعة من الأعمال
المدرسية، والأنشطة الهادفة، لبلورة المكتسبات وتجسيدها في أعمال ملموسة هادفة.
ولدينا تجارب وأعمال من
هذا القبيل في مؤسساتنا التعليمية أود أن أستحضر نماذج منها هاهنا، اعترافاً
بالجميل لأبنائنا التلاميذ، وتشجيعاً لهم على بذل المزيد في سبيل أن تسود قيم
التعاون في فضائنا المدرسي المنشود.
فمن ذلك ما تخطه أناملهم
من رسوم وخطوط معبرة على جذران المؤسسة (أمثلة، حكم، أبيات شعرية...) وما يقومون
به من حملات التشجير والنظافة للمحيط التربوي، المؤطرة من قبل نادي
البيئة...
ومن التجارب والأعمال التي خاضها الفريق التربوي في
ثانوية ابن الهيثم التأهيلية بمدينة العروي (مديرية الناظور) إتاحة فرصة المشاركة للمتعلمين يتأطير أساتذتهم في إعادة ترتيب وتوثيق ووضع
فهرسة مرقمة لمكتبة المؤسسة خلال هذا الموسم الدراسي ( 2021-2022) وانخراطهم كذلك
في إعداد مجلة تربوية شاملة لأنشطة المؤسسة (صدر منها ثلاثة أعداد) التي تعد اليوم قناة تواصل بين
المشاركين والقراء داخل الفضاء المدرسي وخارجه؛ بدءً بالتحضيرلأنشطة ثقافية
وتربوية في مناسبات مختلفة، ومرورا بتوثيقها، وتحرير تقاريرها، وتهيئتها للنشر.
وهذه الأعمال كلها تدل
على قابلية أبنائنا المتعلمين للانخراط في التطبيق العملي لكل ما يتلقونه من قيم،
ليترجموها على أرض الواقع، حتى لا تبقى حبراً على ورق، حبيسة جذران الفصول
الدراسية فقط.
وقابليتهم كذلك للتعاون والانخراط في الأوراش والأعمال التربوية الهادفة، والمشاريع الكبرى لمؤسستهم التعليمية؛ في بيئة تربوية سليمة، جنباً إلى جنب مع الأطر المؤطرة لهم.
[1 ] تاج العروس، مرتضى الزَّبيدي، جـ17، ص: 594 1
[2] لسان العرب، ابن منظور، جـ12، ص: 499.
[3] الجامع لأحكام القرآن،
القرطبي، جـ10، ص: 225
[4] ينظر: نظرية القيم في
الفكر المعاصر بين النسبية والمطلقية، الربيع ميمون، ص: 28
[5] ينظر المرجع
السابق، ص:، 30،31، 62
[6] المدخل إلى القيم
الإسلامية، جابر قميحة، ص: 41
[7] غزية رهط الشاعر وقومه،
ومعناه أنه يتابع قومه على غيهم ورشدهم .
[8] مسند الإمام أحمد، رقم
الحديث: 1740
[9] وهو حلف دعت إليه العرب قبل
الإسلام من أجل تقسيم الأعمال التطوعية خدمة لبيت الله الحرام (الرفادة والسقاية
الحجابة..) بين بني عبد مناف وبني عبد الدار بعد ما وقع الخلاف والنزاع حولها.
[10] وهو حلف ومعاهدة
اجتمعت لها قريش من أجل نصرة المظلوم، حيث تعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة
مظلوماً من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من
ظلمه حتى ترد عليه مَظلَمته.
[11] صحيح البخاري، رقم الحديث:
3.
[12] العمل الاجتماعي تطوع،
عطاء، منصور الرفاعي، مركز الكتاب للنشر، الطبعة الأولى: 2007م، ص: 18.
المراجع المعتمدة:
- تاج العروس من جواهر القاموس، مرتضى الزَّبيدي، دار الفكر - بيروت، الطبعة الأولى 1414ه
- الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، محمد بن إسماعيل البخاري، تخقيق: محمد زهير بن ناصر، دار طوق النجاة، الطبعة: الأولى، 1422هـ
- الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية -القاهرة، الطبعة: الثانية، 1384هـ
- العمل الاجتماعي تطوع، عطاء، منصور الرفاعي، مركز الكتاب للنشر، الطبعة الأولى: 2007م
- لسان العرب، ابن منظور، دار صادر - بيروت، الطبعة: الثالثة - 1414 هـ
- المدخل إلى القيم الإسلامية، جابر قميحة، دار الكتاب المصري، القاهرة، الطبعة الأولى.
- مسند الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1421 هـ
- نظرية القيم في الفكر المعاصر بين النسبية والمطلقية، الربيع ميمون، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع – الجزائر 1980