يسر هيئة التحرير بمجلة المنتقى للدراسات والأبحاث وإحياء التراث أن تقدم عددها الثاني بين يدي جمهورها من القراء والباحثين، وقد اختارت له موضوع: "العلوم الإسلامية ودور علماء الغرب الإسلامي في تطويرها"؛ ذلك لما للدراسات التاريخية للعلوم من أهمية بالغة في التصور الإبستيمولوجي لهذه العلوم، وتصورها تصورا صحيحاً؛ من حيث النشأة والتطور والازدهار... بل حتى على مستوى الأفول أو الشيخوخة والانكماش، وما يستلزم ذلك من استنهاض الهمم وتدارك الخلل.

وقد جمع العدد بين دفتيه جملة من الموضوعات التي لها علاقة بملف العدد، إضافة إلى دراسات أخرى في موضوعات مختلفة؛ من الاجتهاد والتجديد، (وما ارتبط بهما من المنطلقات، والأعلام، والقضايا، والمؤسسات...) وعلوم القرآن، واللغة.

فقد انطلق البحث الأول "علم الحديث مسارات النشأة، وإشكالات التطور" من رصد الإشكالات والعوائق الإبستمولوجية التي أسهمت في بروز علم الحديث النبوي الشريف، المتمثلة أساسا في الإشكال التوثيقي لهذا العلم الشريف، الذي مر بمراحل وإشكالات مختلفة، أدت إلى تشكل مصطلحاته، وارتقاء مباحثه في سلم النضج والاكتمال.

ثم انتقل البحث الثاني والثالث إلى حاضرة من حواضر الغرب الإسلامي التي هي مدينة فاس، لإبراز الدرور الريادي الذي أداه علماؤها سواء في الاهتمام بالعلوم الفقهية تدريسا وتأليفا، أو في رصد تطور العلوم ونشأتها، والأسس العلمية والمنهجية التي رسموها وساروا عليها في هذا العلم، ويعد الحجوي الثعالبي )تـ 1376, (هأنموذج هذا الفن الذي احتفى به البحث الثالث أيما احتفاء.

وقد استمرت الدراستان اللاحقتان -في موضوع العدد- برصد جهود علماء الغرب الإسلامي في تطوير الدرس المقاصدي على مستوى الربط بينه وبين الأصول، وتجسير الهوة بينهما في الاجتهاد؛ تنظيرا وتطبيقا، واستحضار جملة من النوازل الفقهية التي عالجها علماء الغرب الإسلامي  بهذا المنهج الاجتهادي الأصيل.

هذا قبل الانتهاء إلى دراسة موضوع جدير بالعناية والاهتمام؛ الذي هو "مدخل التربية على القيم" لدى عَلم من أَعلام علماء الغرب الإسلامي، وهو: محمد الطاهر بن عاشور من خلال كتابه "أليس الصبح بقريب". الذي تتبع فيه أطوار التعليم في الأمة العربية قبل الإسلام وبعده، قبل أن يصل إلى الفصل الأخير من الكتاب، الذي قدم فيه مقترحاته، للمناهج التعليمية وبرامجه لإصلاح التعليم بجامعة الزيتونة.

وإذا كان الموضوع المقترح في هذا العدد قد نال حظه -بفضل الله وتوفيقه-من الدراسات والأبحاث، التي كشفت عن بعض معالمه وقضاياه، فإنه قد تَحَلّى أيضا بموضوعات لها من الأهمية البالغة بمكان في مجالات وتخصصات مختلفة، كما أسلفنا.

إذ استمر الحديث في هذه الدراسات والأبحاث عن قضية القيم الأخلاقية في القرآن الكريم وأثرها في إصلاح الفرد والمجتمع؛ من خلال نظرات في موضوع القيم في القرآن الكريم وفي تفسير المفسرين له.

تلته ثلاث دراسات في موضوع الاجتهاد والتجديد، تناولت الأولى الاجتهاد الفقهي في عصر الخلافة الراشدة، لرصد المنهج الذي صار عليه الصحب الكرام في الاجتهاد والفتوى، وصيغه وأساليبه، مع تناول بعض النوازل التي نزلت بهم في ذلك العصر. وتناولت الثانية منطلقات في فقه الاجتهاد والتجديد، مستحضرة ما أصاب هذه الأمة من الوهن والجمود والتقليد؛ الذي أدى بها إلى التخلف عن دورها المنشود، ومن ثم اقتراح عدة منطلقات للتخلص من وضعها الراهن. أما الدراسة الثالثة فقد انصبت حول موضوع التجديد عند طه جابر العلواني، وإسهامه في بناء منهجية استثمار العلوم الإنسانية الحديثة في تنزيل الأحكام الشرعية.

كما كان لعوم القرآن أيضا حظها من الدراسات، التي همت الرسم والمصطلح القرآني، وأثر السيرة النبوية في بيان علوم القرآن.  يتوسط الحقلين (الاجتهاد والتجديد، وعلوم القرآن) مقال اهتم بماهية العقل ومكانته في الإسلام، لتفنيد دعوى تخلف العقل المسلم عما وصل إليه العقل الغربي الآن؛ التي اتخذها بعض المستشرقين والمشككين تكأة لنيل مآربهم. ثم الختم بقراءة في كتاب الشيخ القرضاوي الموسوم ب"دور القيم والأخلاق في الاقتصاد".

والمجلة إذ تتشرف بهذا العدد الثاني الذي تضعه بين يدي القراء والباحثين فإنها تأمل أن تلبي جزءا من تطلعاتهم العلمية والمعرفية، وأن يستمر عطاؤها العلمي وإشعاعها الثقافي من خلال أعداد أخرى قادمة إن شاء الله تعالى، تراهن فيها على الإسهامات الجادة من أقلام البحثة المتميزة؛ التي خبرت نوازل البحث العلمي ومشكلاته.


أحدث أقدم

ميزة جدول التنقل